تقع رواية «عقرون 94» للكاتب الروائي عمار باطويل في 93 صفحة من القطع المتوسط، وقد بناها الكاتب في 13 فصلا يطول بعضها ويقصر بعضها الآخر، وهي رواية تبدو صغيرة الحجم، ولكن عند قراءتك لها ستكتشف أنها كبيرة الفكر، عظيمة المحتوى، فليست العبرة بكثرة الورق، ولا تباعد السطور، وإنما العبرة بكمية الأفكار والرؤى التي يطرحها الكاتب وجودتها، وتصويرها للواقع، ورصدها لقضايا المجتمع، فالرواية تاريخ في غلاف فني، فهي تؤرخ للحرب اليمنية عام 1994؛ لذلك وضع العام مقرونا بالعنوان لينبه ذاكرتنا إلى الحدث، ومن هنا فإن لدى الكاتب الروائي القدرة على تجسيد التاريخ وعلى بعثه من جديد في هذا القالب الفني في اتجاهين.
وقد كتبت الرواية بأسلوب سهل ممتع تتناسب لغته مع لغة أبطال الرواية المهمشين أو (الحرافيش) كما يطلق عليهم الكاتب، واستعمل في السرد ضمير المتكلم الذي يدل على الذاتية، فهو يتحدث به وشخوص الرواية أيضا يتحدثون به؛ لأنه يساعد على الانسيابية في التعبير السردي؛ ولهذا تشعر وأنت تقرأ الرواية وكأن أبطالها يتحدثون إليك، ولا يغض من اللغة والأسلوب أن الكاتب استعمل بعض الألفاظ العامية المحلية التي اضطر إلى شرحها في الهامش، فقد قال الجاحظ في كتابه (البيان والتبيين) ما معناه أن لكل فئة مجتمعية لغتها، فلا تحدّث الأمة بلغة الملوك ولا الملوك بلغة العامة، وكذلك للأعراب لغتهم، ولأهل الحاضرة لغتهم، وهذا ما حاول الكاتب أن يمزجه ببراعة، كقوله على لسان الكبش: (أيش من موز تقصد، شي غرام بك) أوقوله: (ياهوين.. ياهوين.. ماتوا الرجال).
وقد اقتصد الكاتب في السرد فلم يلجأ إلى التطويل والتفصيل، ولو كان فعل ذلك، لكان كل فصل من فصولها (13) رواية أخرى؛ ولذك تحس أن الرواية مضغوطة ومركزة وكلها رموز مرتبطة بالواقع. وربما وظف الكاتب أسماء أبطال الرواية توظيفا رمزيا، فعقرون يرمز للأصالة والبعد التاريخي، وكاسترو يرمز للمد الاشتراكي، وابنه أيوب يرمز إلى الصبر، والكبش يرمز إلى الذين تبعوا الشرعية دون فهم.. وهكذا بقية الأسماء كعبده الذي هو اسم تهامي..إلخ.
وتبدأ الرواية بالقلق المخيف، فالحرب تدق طبولها والمستقبل مجهول (السماء ملبدة بالقلق قلق يثير الرعب في القلوب) وتنتهي بالفرح (وبرغم بساطة عملي إلا أني أشعر بأنني أطير.. أطير.. أطير) وما بين القلق والفرح تدور أحداث الرواية في ثلاثة محاور رئيسية:
الأول: الفساد: فساد الوحدة، الفساد الاجتماعي والأخلاقي ويتمثل في عبده وابنته مريوم (إن ابنتك يا عبده تسببت في إفساد أخلاق شباب الوادي). ويأتي الخطف نوعا آخر من الفساد الأخلاقي والاجتماعي (أيوب يحمل نفس حيرة أهل الوادي ويسأل عن السر وراء اختفاء البنات ماذا يعمل هؤلاء الشماليون بالبنات؟ هل يسحرونهن أو يغرونهن بالمال كي يذهبن معهم ويتركن أهاليهن؟) إنها مأساة عاشها وادي عقرون، والفساد الاقتصادي الاجتماعي يتمثل في القات وتوابعه، وفي الرشوة وأضرارها، وفساد سياسي ويتمثل في نكران جنسية عقرون، ورفض الفندم صرف جواز سفر له؛ لأنه يشك أنه صومالي وذلك من لون بشرته، وفي الإقصاء، والتهميش.
الثاني: الضياع: ففي الفصل العاشر يستمع البطل عقرون من جده إلى حكاية السيل الذي نزل من عقرون وجرف أراضيهم وهدم بيوتهم، واضطرهم إلى (الجول) وهو ظهر الجبل وكيف أن أباه ضاع منهم، ثم حضر مكسور الساق يتكئ على عكاز، وكان ذلك يوم ولادة البطل فأشار أبوه عليهم بأن يسموه عقرون، ثم عودتهم من(حم حا) وهي معقل الصبيان المهمشين، حيث وجدوا ديارهم مهدمة وأشياءهم مدمرة فلم يتحملوا الموقف فتفرقوا في قرى وبلدات دوعن، وهي إشارة رمزية إلى ضياع الوطن ولم يبق منه غير الاسم. ولعله أراد بالسيل الجارف هذه الجحافل القادمة من الشمال كالطوفان والتي ألجأت كثيرا من أهل حضرموت إلى الهجرة إلى السعودية ودول الخليج.
والكاتب يربط بين ضياع وطنه حضرموت، وضياع فلسطين في عهد القومية (ولكي لا ينسى هذا الملك العظيم...... فوجد عقرون في حضرموت وعقرون في فلسطين) وربما يشير إلى التشابه في العمق التاريخي بين فلسطين وحضرموت.
الثالث: الدعوة إلى الارتباط بالأرض بدلا من البحث عن الوهم، وهذه الدعوة لا تكاد تجد فصلا من فصول الرواية يخلو منها (قال لي جدي: إن الإنسان لا يكون بكامل أوصافه الإنسانية إلا عندما يلتحم بالأرض وينتمي إليها بالعمل والكفاح ويسقي تربتها بالعرق والدماء، مثلك ياعقرون)، وزاد من هذه الدعوة أن بطل الرواية عقرون عندما عاد من المكلا بعد أن رفض الفندم صرف جواز سفر له ليسافر إلى السعودية، عاد إلى حقله وارتبط بأرضه، وأخذ يعمل في حقله بجدية وبدأت ظروفه المالية تتحسن بفضل زراعته للفجل وقد يكون لزراعة الفجل رمزية خاصة لأنه لا موسم لزراعته أو أنه من المحصولات الهامشية؛ ليدل إلى أن الأرض تعطي من خيراتها حتى الفجل له مردود إيجابي، وعليك بالعودة إليها..
وأخيرا، فإن الرواية جيدة وتحتمل أكثر من قراءة، وفيها رموز كثيرة (كالمدارة) و(الخيول التي تغتسل في ماء النهر من الدماء) وغيرها كثير، وهذه هي ميزة الكاتب المبدع.
وقد كتبت الرواية بأسلوب سهل ممتع تتناسب لغته مع لغة أبطال الرواية المهمشين أو (الحرافيش) كما يطلق عليهم الكاتب، واستعمل في السرد ضمير المتكلم الذي يدل على الذاتية، فهو يتحدث به وشخوص الرواية أيضا يتحدثون به؛ لأنه يساعد على الانسيابية في التعبير السردي؛ ولهذا تشعر وأنت تقرأ الرواية وكأن أبطالها يتحدثون إليك، ولا يغض من اللغة والأسلوب أن الكاتب استعمل بعض الألفاظ العامية المحلية التي اضطر إلى شرحها في الهامش، فقد قال الجاحظ في كتابه (البيان والتبيين) ما معناه أن لكل فئة مجتمعية لغتها، فلا تحدّث الأمة بلغة الملوك ولا الملوك بلغة العامة، وكذلك للأعراب لغتهم، ولأهل الحاضرة لغتهم، وهذا ما حاول الكاتب أن يمزجه ببراعة، كقوله على لسان الكبش: (أيش من موز تقصد، شي غرام بك) أوقوله: (ياهوين.. ياهوين.. ماتوا الرجال).
وقد اقتصد الكاتب في السرد فلم يلجأ إلى التطويل والتفصيل، ولو كان فعل ذلك، لكان كل فصل من فصولها (13) رواية أخرى؛ ولذك تحس أن الرواية مضغوطة ومركزة وكلها رموز مرتبطة بالواقع. وربما وظف الكاتب أسماء أبطال الرواية توظيفا رمزيا، فعقرون يرمز للأصالة والبعد التاريخي، وكاسترو يرمز للمد الاشتراكي، وابنه أيوب يرمز إلى الصبر، والكبش يرمز إلى الذين تبعوا الشرعية دون فهم.. وهكذا بقية الأسماء كعبده الذي هو اسم تهامي..إلخ.
وتبدأ الرواية بالقلق المخيف، فالحرب تدق طبولها والمستقبل مجهول (السماء ملبدة بالقلق قلق يثير الرعب في القلوب) وتنتهي بالفرح (وبرغم بساطة عملي إلا أني أشعر بأنني أطير.. أطير.. أطير) وما بين القلق والفرح تدور أحداث الرواية في ثلاثة محاور رئيسية:
الأول: الفساد: فساد الوحدة، الفساد الاجتماعي والأخلاقي ويتمثل في عبده وابنته مريوم (إن ابنتك يا عبده تسببت في إفساد أخلاق شباب الوادي). ويأتي الخطف نوعا آخر من الفساد الأخلاقي والاجتماعي (أيوب يحمل نفس حيرة أهل الوادي ويسأل عن السر وراء اختفاء البنات ماذا يعمل هؤلاء الشماليون بالبنات؟ هل يسحرونهن أو يغرونهن بالمال كي يذهبن معهم ويتركن أهاليهن؟) إنها مأساة عاشها وادي عقرون، والفساد الاقتصادي الاجتماعي يتمثل في القات وتوابعه، وفي الرشوة وأضرارها، وفساد سياسي ويتمثل في نكران جنسية عقرون، ورفض الفندم صرف جواز سفر له؛ لأنه يشك أنه صومالي وذلك من لون بشرته، وفي الإقصاء، والتهميش.
الثاني: الضياع: ففي الفصل العاشر يستمع البطل عقرون من جده إلى حكاية السيل الذي نزل من عقرون وجرف أراضيهم وهدم بيوتهم، واضطرهم إلى (الجول) وهو ظهر الجبل وكيف أن أباه ضاع منهم، ثم حضر مكسور الساق يتكئ على عكاز، وكان ذلك يوم ولادة البطل فأشار أبوه عليهم بأن يسموه عقرون، ثم عودتهم من(حم حا) وهي معقل الصبيان المهمشين، حيث وجدوا ديارهم مهدمة وأشياءهم مدمرة فلم يتحملوا الموقف فتفرقوا في قرى وبلدات دوعن، وهي إشارة رمزية إلى ضياع الوطن ولم يبق منه غير الاسم. ولعله أراد بالسيل الجارف هذه الجحافل القادمة من الشمال كالطوفان والتي ألجأت كثيرا من أهل حضرموت إلى الهجرة إلى السعودية ودول الخليج.
والكاتب يربط بين ضياع وطنه حضرموت، وضياع فلسطين في عهد القومية (ولكي لا ينسى هذا الملك العظيم...... فوجد عقرون في حضرموت وعقرون في فلسطين) وربما يشير إلى التشابه في العمق التاريخي بين فلسطين وحضرموت.
الثالث: الدعوة إلى الارتباط بالأرض بدلا من البحث عن الوهم، وهذه الدعوة لا تكاد تجد فصلا من فصول الرواية يخلو منها (قال لي جدي: إن الإنسان لا يكون بكامل أوصافه الإنسانية إلا عندما يلتحم بالأرض وينتمي إليها بالعمل والكفاح ويسقي تربتها بالعرق والدماء، مثلك ياعقرون)، وزاد من هذه الدعوة أن بطل الرواية عقرون عندما عاد من المكلا بعد أن رفض الفندم صرف جواز سفر له ليسافر إلى السعودية، عاد إلى حقله وارتبط بأرضه، وأخذ يعمل في حقله بجدية وبدأت ظروفه المالية تتحسن بفضل زراعته للفجل وقد يكون لزراعة الفجل رمزية خاصة لأنه لا موسم لزراعته أو أنه من المحصولات الهامشية؛ ليدل إلى أن الأرض تعطي من خيراتها حتى الفجل له مردود إيجابي، وعليك بالعودة إليها..
وأخيرا، فإن الرواية جيدة وتحتمل أكثر من قراءة، وفيها رموز كثيرة (كالمدارة) و(الخيول التي تغتسل في ماء النهر من الدماء) وغيرها كثير، وهذه هي ميزة الكاتب المبدع.